المقالات

فضحتك يا ( عكروت )

وحتى لايجهد القارئ فكره في فهم كلمة ( عكروت ) أحب أن أوضح له أنها – في اللهجة الفرسانية – تعني ( الطفل الشقي ) ولأننا في شهر ( رمضان المبارك ) فإن الحديث عن هذا الشهر الكريم يستمد طرافته من وداعة أيامه وبركة لياليه المفعمة بالروحانية والصفاء ، وكل ماهو جميل وخفيف ومحبب إلى النفوس ، وخاصة إذا كان هذا الحديث مرتبطًا بأيام الطفولة البيضاء .
صحيح أن لكل فرد مسلم ذكريات لطيفة مع تلك الأيام الموشومة بشقاوات الطفولة الأولى من عمره ، ولكن كل واحد له ذكرياته الخاصة المتعلقة ببدايات صومه ، ومحاولة تقليد من يكبرونه سنًا ويسبقونه تجربة مع أيام هذا الشهر الكريم .

شخصيًا كان شأني شأن الآخرين من رفاق طفولتي – في تلك الأيام الخوالي – فما زلت أتذكر تلك الزوايا والمنعطفات التي كنت أتستر فيها على فعلتي عندما يشتد بي الظمأ ، ويستبد بأمعائي الجوع ، فآوي إلى ركن قصي وبعيد عن عيون الآخرين فأتناول لقيمات مما تخبئه سحارة أسرتي الخشبية في جوفها من بقايا ( وجبة السحور ) وماتغريني به الشربات الفخارية من بقايا مائها المبرد فأكرع منها ما أطفئ به لهيب الظمأ في داخلي .. هذه تجربة لاأدعي التفرد بها لأن أشباهي من الأطفال كثيرين .
لكن الذي أدعيه – وما يزال عالقًا بذاكرتي – هو ذلك اليوم الذي انتهزت فيه نوم أمي – رحمها الله- وأغرتني بقايا ( الكشنة ) في قاع ( الطاوة ) التي تعمدت والدتي إبقاءها في جوف السحارة التي تعودت اللجوء إليها كل يوم .
في الليالي التي أحاول فيها طرد النعاس من أجفاني – ساعة السحور – كنت أقطع على نفسي عهدًا بأنني سأكون صائمًا صبيحة ذلك اليوم .. ومن باب تقليد الكبار كنت أختبئ في تلافيف لحافي المهترئ حتى ساعة معينة من النهار – يكون الآخرون قد أسلموا عيونهم للنوم – فأتسرب من تحت غطائي خفية لأفعلها ثم أعود إلى وضعي السابق ، وكأن شيئًا لم يكن .
في ضحى ذلك اليوم عبثت رائحة الكشنة بشهيتي فتسربت إلى السحارة بخطى بطيئة لأجد جدران الطاوة وقاعها يغرياني بلون الصلصة قاني الحمرة ، وبقايا لمعان الدهون التي توشم ذلك اللون الفاتن الذي تنبعث منه رائحة ( البصل ) المكشن ، الأمر الذي أفقدني مقاومة الصمود أمام تلك الإغراءات ، فما كان مني إلا أن بحثت عن بقايا كسر من خمير الذرة أغمس لقيماتها في قعر الطاوة ، وبينما أنا كذلك إذا بي أسمع ( طرقعات ) قبقاب جدتي الخشبي قادمة من خارج مكان الفضيحة لأسرع إلى إعادة الطاوة إلى سحارتها .. ودون أن أتمكن من غسل يدي الملطخة بالصلصة والدهون ، ولم أشعر إلا بيد جدتي تمسك بإحدى أصابعي… وبحنوها المعروف وعطفها ( الجداتي ) قالت لي بصوت ساخر : ( فضحتك ياعكروت ) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى