المقالات

فجر تأسيس المملكة تأملات ودروس

 

في إطار سلسلة مقالاتنا صقر الجزيرة نلقي الضوء في المقال الحالي علي رحلة الملك عبد العزيز نحو استرداد مدينة الرياض ،والأحداث السابقة التي مهدت لهذا الحدث الكبير.
نعم لقد خرج عبد العزيز مع أسرته وغادر الرياض مسقط رأسه وملاعب الصبا وهو يرنو بعينيه نحو الرياض التي لم تفارق عقله ووجدانه ولسان حاله يقول َودعتها ولو بودي لا أودعها ولكن إذا حم القضاء على امرئ فلا بد أن يرضى بما قسمه الله له وكان يهون عليه مانزل به أنه مع عائلته التي خففت عليه كثير من متاعب الغربة عن الديار، وطئت منزل به منصاع لأوامر والده الذي نشأه وطنه وتوسم فيه الفطنة والذكاء، وظهرت عليه إمارات الحكمة و القيادة والذكاء و نفسه ترنو للعلياء والمجد. هذه السمات العقلية والوجدانية اسهمت في تكوين شخصيته و ثقله وإعداده المبكر نحو قيادة البلاد ورسم تاريخ جديد للمنطقة بأسرها.
ونشأ فارس لايشق له غبار قد تشرب  بكل أخبار العرب وفهم ووعى كل مايدور حوله ويعصف به من المعارضين لحكمهم ،و أيقن كل ذلك في صغره ومازاده كل ذلك إلا إصرارًا على تحمل المخاطروالصعاب منذ أن كان صغيراً ولقنه والده كل أمور الحكم والسياسة وفلسفتها،
وكان تفكيره كله منصبا على العودة إلى أرض الوطن  ولم ينس أو يغفل لحظة عن دياره التي غرست في قلبه و مخيلته ولم تخلو نفسه البته
من الحنين والشوق إلى مسقط رأسه التي درج فيها وتنسم من هواها  ونهل من معينها، وسار في دروبها وربوعها التي عرفته وعرفها والفته وألفاها وكأنهما ارتبطا معًا .
فلاشك أن الرياض قد ارتسمت في مخيلته  َالتي سكنت في فؤاده أرض أجداده ومعقل حكمهم
قد وعي كل ذلك في صباه وتفتحت مداركه على كل مايخص الحكم وكيف يسوس  الملك ويحافظ عليه من الطامعين والمناوئين لهم من المعارضين لحكمهم وحكمتهم ونفوذهم.
وكأنه يتألم لملك زال ولحال تبدل إلى غير حال ولكن كل هذا لم يضعف عزيمته للعودة إلى الرياض عشقه الأول ولهذا فلم يتسع له أي مكان تجول فيه سوى مسقط رأسه التي ظلت دائما حاضرة
في تفكيره ووجدانه تداعبه و تحدثه وكأنها رفيقة دربه التي لم تغادره للحظة ولهذا كان يصوب عقله نحو الرياض و يخطط دائما للعودة إليها مجددا ليرتمي بين أحضانها ويلملم شتات قلبيهما التي عصفت بها سنوات الغربة و الفراق. وظل السؤال الذي لم يفارق تفكيره قط كيف السبيل للوصول لمسقط رأسه َوفتح الرياض ؟ واستطاع بعد تمحيص وتدقيق لمجاريات الأمور بعد أن حدد هدفه وجمع معلومات على درجة كبيرة من الموضوعية والموثوق بها من رجاله المخلصين عن أخبار المدينة وأحوال الناس الذين مازال لسانهم يلهج بمآثر أمجاد أجداده من آل سعود الذي ظل ولائهم الأول والأخير لهم فكانوا خير عون له على مواجهة خصومه،
وقد استطاع عبد العزيز عام ١٣١٩ إقناع والده بضرورة العودة
مع عدد قليل من أعوانه أصحاب البأس الشديد المخلصين الذين نذروا أنفسهم لنصرة الحق َقد كان سلاحهم في ذلك يتمثل في أيمانهم بالله وصدق توكلهم عليه سبحانه.
ولعل هذه القواسم المشتركة هي ما خلقت الكيمياء بين عبد العزيز و رجاله الذين توسم فيهم الخير والصلاح وتوسموا فيه القيادة والحكمة  والملك على توحيد هذه الأمة تحت راية واحدة.
بعد أن أعد الأمر عدته ووضع خطة لاسترداد الرياض وعلى لسان الملك عبد العزيز نفسه.، كما يروي لنا بذاته، حيث يقول :  “أخذنا أرزاقنا وسرنا وسط الربع الخالي ولم يَدرِ أحد عنا أين كنا فجلسنا شعبان بطوله إلى عشرين من رمضان ثم سرنا إلى العارض “. ومكث يتأمل ويتفحص المكان ويخطط واهتدي في النهاية لوضع خطة لاسترداد الرياض التي من أجلها تجشمت عناء الصعاب والمخاطر. لقد تمثلت فلسفته السياسية أن ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة. ومن أجل ذلك  وضع استراتيجية  للمعركة الحاسمة
وضع نفسه على رأس المجاهدين كنموذج للقائد المغوار الذي لايهاب المنية ولا شيء يمنعه من مواصله حلمه الكبير مضحيا بنفسه في شجاعة واقدام من أجل هذه الأمة التي كانت في مخاضها الأخير نحو ميلاد جديد على يد ملكنا عبد العزيز
ويصدق فيه قول الشاعر أبو ذؤيب الهذلي
” وَتَجَلُّدي لِلشامِتينَ أُريهِمُ
أَنّي لَرَيبِ الدَهرِ لا أَتَضَعضَعُ”
لذا كشف عبد العزيز عن قوته وشجاعته و تدبره للأمور السياسية والتخطيط العسكري حيث بدأ بتقسيم الأدوار والمهام وتوزيع السلاح علي أعوانه ورجاله الذين كانوا على أشد الاستعداد و الجاهزية الذهنية والبدنية  وكان قائدهم الهمام قد أصدر لهم أوامر بالبدء للمواجه ولمعركة الحسم
وقد تحرك متوكلا على الله وآخاذًا بالأسباب المادية من حسن التدبير و التخطيط وأخذ الحيطة والحذر لأن الأمر لا يحتمل الخطأ ولأن رحلته محفوفه بالمخاطر والصعاب،
ولهذا اتصف بالحزم و رباطة الجأش حتى لايظهر منه ضعف ينفذ من خلاله
الأعداء فضرب بيد من حديد وأمسك بزمام الأمور حيث تقدمهم في المكروهات وخاض غمار الحرب وكأن لليث الجسور قد صمد صمود الجبال الرواسي الشمخات وقتل قتال الأبطال وضرب بالسيف وطعن بالرمح حتى نفذ إلى باب القصر وكانت الرياض قد تزينت واستقبلته بجمالها عند باب القصر فاتحة ذراعها لاستقبال ملكها ومؤسسها العظيم
إنتهت المواجهة بين الطرفين  بانتصار الملك عبدالعزيز على خصمه ، وقد دوى بها  أحد رجاله الأوفياء المقربين وقد صعد أعلى قصر المصمك يذيع على الجمع الغفير .
(الملك لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود). وسرعان ما سار الخبر وتطاير كسرعة النار في الهشيم في جميع أرجاء مدينة الرياض، يزف اليهم النبأ السعيد،
وهكذا تحقق للملك عبد العزيز ما أراد وسعي من أجله ومانيل المطالب بالتمني ولكن تأخذ الدنيا غلابا.
بعد أن حقق حلم العودة الذي راوده منذ صغره استرجاع واسترداد أرض آبائه وأسلافه
ضرب لنا أروع المثل في التضحية والبطولة والفداء والذود بالنفس من أجل رحلة الاسترداد.
أ. مصباح علي
ماجستير في اللغة العربية وآدابها في تخصص الدراسات الأدبية والنقدية.
mbh19306@GMAIL.COM

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى